ومن خطبه
حمد الله واثنى عليه ثم قال :-
اوصيكم عباد الله ونفسى بتقوى الله ولزوم طاعته وتقديم العمل وترك الامل فانه من فرط فى عمله لم ينفع بشئ من امله . اين التعب بالليل والنهار والمقتحم للحجج البحار ومفاوز القفار يسير من وراء الجبال وعالج الرمال يصل الغدو بالرواح والمساء بالصباح فى طلب محقرات الارباح هجمت عليه منيته فعظمت بنفسه رزيته فصار ما جمع بورا وما اكتسب غرورا ووافى القايامه محسوراً.
ايها الاهى الغاز نفسه كانى بك وقد اتاك رسول ربك لا يقرع لك بابا ولا يهاب لك حجابا ولا يقبل منك بديلاً ولا ياخذ منك كفيلاص ولا يرحم لك صغيرا ولا يوقر فيك كبيرا حتى يؤديك الى قعر مظلمه ارجاؤها موحشه كفعله بالامم الخاليه والقرون الماضيه . أين من سعى واجتهد وجمع وعدد وبنى وشيد وزخرف ونجد وبالقليل لم يقنع وبالكثير لم يمتع اين من قاد الجنود ونشر البنود اضحوا رفاتا تحت الثرى امواتا وانتم بكاسهم شاربون ولسبيلهم سالكون .
عباد الله فاتقوا الله وراقبوه واعملوا لليوم الذى تسير فيه الجبال وتشفق السماء بالغمام وتطاير الكتب عن الايمان والشمائل . فاى رجل يؤمئذ تراك اقائل : هاؤم اقرءوا كتابيه ام : يا ليتنى لم اوت كتابيه نسال من وعدنا باقامه الشرائع جنته أن يقينا سخطه . ان احسن الحديث و ابلغ الموعظة كتاب الله الذى لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .
ونستنتج من خطبه ما يأتى
*اسلوب وخصائص خطب على بن ابى طالب
إنّ القيمة الأساسية للنص في خطب علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ورسائله ، ماثلة في حضور الإبداع النصّي في النشاط الفكري والكلامي له على المستويَين : الشفهي والتحريري ، وتلك ميزة نادرة يتفرّد بها علي بن أبي طالب بصورة ملموسة .
وهي مزيّة تجعله في المقدّمة من جميع كتّاب النصوص المبرَّزين ، ذلك لأنّ أولئك الكتّاب مثلهم مثل الرسّامين والنحّاتين الذين يصنعون نماذجهم بعد طول تأمل وتخطيط وممارسة ، وبعد مراجعات نقدية متواترة ، وصولاً إلى المحصلة الفنية النهائية على صعيد العمل .
وكان الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بعفويته الثاقبة ، يباشر عمله الإبداعي الفوري ، فيأتي النص المرتجل ، مثل النص المكتوب ، آيةً في الإتقان والروعة .
ومن الثابت أنّ جريان خطب علي ( عليه السلام ) على نحوه الباهر في طوله وقصره ، هو دليل على الفعالية الخارقة لعقل مبدع موهوب ، هو السيّد المؤكّد في عالم العقول .
ويُلخص الحوفي عدّة صفات في تعبير الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) هي :
1ـ تخيّر المفردات :
بحيث تنسجم من الناحية الصوتية ، فتجيء خفيفة على اللسان ، لذيذة الوقع في الآذان ، موافقة لحركات النفس ، مطابقة للعاطفة التي أزجتها أو للفكرة التي أملتها ، كقوله ( عليه السلام ) في كتاب إلى عمّاله على الخراج : ( إنّكم خُزّان الرعية ، ووكلاء الأمّة ، وسفراء الأئمّة )
2ـ قوّة التعبير :
إذ أجمع علماء البيان العربي على أنّ الكلام إذا كان لفظه غثّاً ، ومعرضه رثّاً ، كان مردوداً ولو احتوى على أجلّ معنى وأنبله ، كما ذكر أبو هلال العسكري في الصناعتين .
وأجمعوا على أنّ الجزل القوي من الكلمات يستعمل في وصف الحروب ، وفي قوارع التهديد والتخويف ، وفي التنفيس عن الغضب والضيق وما شابه هذا .
وأمّا الرقيق منها ، فإنّه يستعمل في وصف الأشواق ، وذكر أيّام الفراق ، وفي استجلاب المودّات ، واستدرار الاستعطاف وأشباه ذلك ، ( كما ورد في المثل السائر لابن الأثير الموصلي )
3ـ سهولة التعبير :
مثل قوله في كتاب إلى عبد الله بن عباس بعد مقتل محمّد بن أبي بكر : ( فعند الله نحتسبه ولداً ناصحاً ، وعاملاً كادحاً ، وسيفاً قاطعاً ، وركناً دافعاً ، وقد كنت حثثت الناس على لحاقه ، وأمرتهم بغيائه قبل الوَقْعه ، ودعوتهم سراً وجهراً ، وعوداً وبدءاً ، فمنهم الآتي كارهاً ، ومنهم المعتلّ كاذباً ، ومنهم القاعد خاذلاً )
4ـ قِصَر الفقرات :
مثل قوله لما أغار النعمان بن بشير الأنصاري على عين التَمر : ( مُنيتُ بمن لا يطيع إذا أمرت ، ولا يجيب إذا دعوت ، لا أباً لكم ! ما تنتظرون بنصركم ربّكم ؟ أما دينٌ يجمعكم ، ولا حَمِيّة تُحمِشكم ؟! أقوم فيكم مستصرخاً ، وأُناديكم مُتَغوّثاً ، فلا تسمعون لي قولاً ، ولا تطيعون لي أمراً ، حتّى تكشف الأمور عن عواقب المساءة ، فما يُدرَك بكم ثأر ، ولا يُبلَغ بكم مرام ، دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسرّ ، وتثاقلتم تثاقل النضْو الأْبَر )
5ـ كثرة الصيغ الإنشائية :
وهي : الأمر والنهي ، والاستفهام ، والترجي والتمني ، والنداء والقسم والتعجب ، وهي أقوى من الصيغ الخبرية تجديداً لنشاط السامعين ، وأشد تنبيهاً وأكثر إيقاظاً ، وأدعى إلى مطالبتهم بالمشاركة في القول وفي الحكم ، وهي في الوقت نفسه أدق في تصوير مشاعر الخطيب وأفكاره ، لأنّ أفكاره ومشاعره المتنوّعة في حاجة إلى أساليب متغايرة تفصح عنها .
ثمّ إنّ مغايرة الأساليب تستتبع مغايرة في نبرات الصوت وفي الوقفة والإشارة وطريقة الإلقاء ، وهذا كلّه عون على الوضوح من ناحية ، وعلى التأثير في السامعين من ناحية
6ـ السجع والترسُّل : قوله في إحدى خطبه : ( فلْيقبل امرؤ كرامة بقبولها ، وليحذر قارعة قبل حلولها ، ولينظر امرؤ في قصير أيّامه ، وقليل مُقامه في منزل حتّى يستبدله به منزلاً ، فليصنع لمتحوّله ، ومعارف منتقله ، فطوبى لذي قلب سليم أطاع من يهديه ، وتجنّب من يُرديه ، وأصاب سبيل السلامة ببصرِ من بَصَّره ، وطاعة هاد أمره ، وبادر الهُدى قبل أن تُغلق أبوابه ، وتُقطَع أسبابه ، واستفتح التوبة ، وأحاط الحَوبة ، فقد أقيم على الطريق ، وهُدِيَ نهج السبيل )
7ـ التوازن : كثيراً ما تجيء الجُمل في نهج البلاغة متوازنة ، بأن يتساوى عدد كلماتها ، أو تتماثل أوزان نهاياتها ، وهذا ضرب آخر من موسيقى التعبير ، ويحبّب إلى السمع ، ويقرّبُه إلى الذوق .
ومن الموازنة قول الإمام علي ( عليه السلام ) : ( لم يَؤدْه خلقُ ما ابتدأ ، ولا تدبير ما ذرأ ، ولا وقفَ به عجزٌ عمّا خلق ، ولا ولَجت عليه شبهة فيما قضى وقدّر ، بل قضاء متقن ، وعلم مُحكم ، وأمر مبرم )
8ـ الجناس ، الطباق ، والمقابلة ، والتوشع :
كما استعرض الدكتور الحوفي أمثلة عديدة عن الخيال البياني في خطب الإمام علي بن أبي طالب ورسائله ـ وما تعتمده من التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز ـ وهي عُدّة الشاعر والخطيب والكاتب ، التي برع فيها الإمام علي براعة منقطعة النظير ، في شتّى شؤون المعرفة ، والعقل ، والنفس ، وفي مختلف قضايا البشر ، والدين والدنيا .
*مزيّة خاصّة :
إنّ نهج البلاغة ـ كما يقول ابن أبي الحديد ـ إذا تأمّلته : ( وجدتَه كلَّه ماءً واحداً ، ونَفَساً واحداً ، وأسلوباً واحداً ، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية ) وهو ـ في عظمته الأسلوبية ـ يحتوي على عبقرية الحُسن اللفظي ، تلك العبقرية التي تتمثّل في علاقة اللفظة بالأخرى ، والتي تَرِد في خطب ، وفقرات ممتازة التميّز ، تأخذ فيها اللفظة بعنق قرينتها ، جاذبة إيّاها إلى نفسها ، دالّة عليها بذاتها
النص الوصفي :
إنّ ذكاء الإمام علي بن أبي طالب النادر ، كان يستعين بذاكرة قوّية ، وقدرة هائلة على اختزان صور الناس والطبيعة ، وأخبار البشر ، وأوصاف الأشياء ، وكانت دقّة ملاحظته تجعله محيطاً إحاطة مدهشة ، بسمات الشيء الباطنة ، قبل الظاهرة .
وبفعل ذلك ، كان وصفُه يتغلغل إلى عمق الظاهرة أو الصفة ، كما يتسع ليربط الظاهرة بالأخرى ، والصفة بالأخرى ، ليقدّم رؤية شاملة ، تضع الجزئي في موضعه الحقيقي ضمن العام ، وتضع البعض ضمن الكل ،
واخيرا احب ان اقول
إنّ النص النثري للإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، اكتسب فوائد عظمى من الثقافة القرآنية له ( عليه السلام ) في المضمون وفي الشكل ، وكان كثير الاستشهاد بالقرآن الكريم وبالحديث النبوي ، وكان كثير الاستشهاد بالشعر ، لأنّه كان شاعراً بطبيعته ، وفي ذلك يقول العقّاد : وعندي أنّه رضي الله عنه كان ينظم الشعر ويحسن النظر فيه ، وكان نقده للشعراء نقدَ عليم بصير ، يعرف اختلاف مذاهب القول واختلاف وجوه المقابلة والتفضيل على حسب المذاهب ، ومِن بصره بوجوه المقابلة بينهم أنّه سُئل : مَن أشعر الناس ؟ قال : إنّ القوم لم يَجْروا في حلقة تُعرف الغاية عند قَصَبتها ، فإن كان لابدّ فالملِك الضِليل .
وهذا فيما نعتقد أوّل تقسيم لمقاييس الشعر على حسب المدارس والأغراض الشعرية بين العرب ، فلا تكون المقابلة إلاّ بين أشباه وأمثال ، ولا يكون التعميم بالتفضيل إلاّ على التغليب .
إنّ الشعر يتخلّل خطب الإمام علي بن أبي طالب ورسائلَه وأحاديثه ، لكنّ عظمة نثره ظلّت آيةً من آيات الأدب والحكمة والمعرفة ، تفيض كنوزها بالتلقّي ، فتزدادُ ثراء وتألّقاً.
وصدق إذ قال : ( وإنّا لأُمراء الكلام ، وفينا تنشّبت عروقه ، وعلينا تهدلّت غصونه )